الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأجيب بأن ذلك كا قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود، وقيل: إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل، والمراد من {عَن مواضعه} على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقًا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحًا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان {يُحَرّفُونَ} بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الكلم ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة (41) من قوله سبحانه: {مِن بَعْدِ مواضعه} أن الثاني أدل على ثبوت مقارّ الكلم واشتهارها مماهنا، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع وتقرر حرفوه عنه، واختار ذلك هنالك لأن فيه ما يقتضي الاتيان بالأدل الأبلغ {وَيَقُولُونَ} عطف على {يُحَرّفُونَ} وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم أو بلسان الحال أو المقال عنادًا وتحقيقًا للمخالفة {سَمِعْنَا} أي فهمنا {وَعَصَيْنَا} أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} عطف على {سَمِعْنَا} داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني، وفي أثناء مخاطبته صلى الله عليه وسلم وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر والخير، ويسمى في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد، ومثلوا له بقوله:
واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسمع نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك، أو اسمع كلامًا غير مسمع إياك لأن أذنيك تنبو عنه فغير إما حال لا غير، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا لعنهم الله تعالى إجابته صار كأنه واقع مقرر، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى: اسمع منا غير مسمع مكروهًا من قولهم: أسمعه فلان إذا سبه، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيًا منسيًا وتعورف في ذلك، وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءًا مظهرين له صلى الله عليه وسلم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه.{وراعنا} عطف على ما قبله أي ويقولون أيضًا في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا وهو ذو وجهين كسابقه، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا، أو انتظرنا نكلمك، واحتماله للشر بحمله على السب، ففي [التيسير]: إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة، وقيل: إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا، وقيل: بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون لعنهم الله تعالى أنه وحاشاه صلى الله عليه وسلم بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير.وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل: إن جميع الكفار يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه عليه الصلاة والسلام، واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالًا، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل: يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالًا وحالًا وعصيانهم بعد سماع ما بلغهم وتحققه لديهم ويحتالون في سبه صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} لم يكن بمحضره عليه الصلاة والسلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلى الله عليه وسلم، وقيل: القول نظرًا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني، وقيل: إن الأولى أيضًا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا، ويحتمل أن يكون مرادهم ما تقدم.ومن الناس من جوز أن يراد بتحريف الكلم إمالتها عن مواضعها سواء كانت مواضع وضعها الله تعالى فيها أو جعلها المقام والعرف مواضع لذلك فيكون المعنى هم قوم عادتهم التحريف، ويكون قوله سبحانه: {وَيَقُولُونَ} إلخ تعدادًا لبعض تحريفاتهم، والمراد إنهم يقولون لك: سمعنا وعند قومهم عصينا ويقولون كذا وكذا فيظهرون لك شيئًا ويبطنون خلافه {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} اللّي يكون بمعنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة إلى أخرى، ويكون بمعنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى.والمراد به هنا إما صرف الكلام من جانب الخير إلى جانب الشر، وإما ضم أحد الأمرين إلى الآخر، وأصله لوى فقلبت الواو ياءًا وأدغمت، ونصبه على أنه مفعول له ليقولون باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، وقيل: بالأقوال جميعها، أو على أنه حال أي لاوِينَ ومثله في ذلك قوله تعالى: {وَطَعْنًا في الدين} أي قدحًا فيه بالاستهزاء والسخرية، وكل من الظرفين متعلق بما عنده {وَلَوْ أَنَّهُمْ} عندما سمعوا شيئًا من أوامر الله تعالى ونواهيه {قَالُواْ} بلسان المقال كما هو الظاهر أو به وبلسان الحال كما قيل: {سَمِعْنَا} سماع قبول مكان قولهم: {سَمِعْنَا} المراد به سماع الرد {وَأَطَعْنَا} مكان قولهم: {عصينا} {وَعَصَيْنَا واسمع} بدل قولهم: {أَسْمِعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}.{وانظرنا} بدل قولهم: {راعنا} {لَكَانَ} قولهم هذا {خَيْرًا لَّهُمْ} وأنفع من قولهم ذلك {وَأَقْوَمُ} أي أعدل في نفسه، وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفعل في المفضل عليه بناءًا على اعتقادهم أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل فلا حاجة إلى تقدير من، وفي تقديم حال القول بالنسبة إليهم على حاله في نفسه إيماء إلى أن همم اليهود لعنهم الله تعالى طماحة إلى ما ينفعهم، والمنسبك من (أن) وما بعدها فاعل ثبت المقدر لدلالة أن عليه أي: لو ثبت قولهم سمعنا إلخ وهو مذهب المبرد، وقيل: مبتدأ لا خبر له، وقيل: خبره مقدر.{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} أي ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم، واستمروا على ذلك فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم {فَلاَ يُؤْمِنُونَ} بعد {إِلاَّ قَلِيلًا} اختار العلامة الثاني كونه استثناء من ضمير المفعول في {لَّعَنَهُمُ} أي ولكن لعنهم الله تعالى إلا فريقًا قليلًا منهم فإنه سبحانه لم يلعنهم فلهذا آمن من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، وقيل: هو مستثنى من فاعل {يُؤْمِنُونَ} ويتجه عليه أن الوجه حينئذ الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب مع أن القراء قد اتفقوا على النصب، ويبعد منهم الاتفاق على غير المختار مع أنه يقتضي وقوع إيمان من لعنه الله تعالى وخذله إلا أن يحمل {لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} على لعن أكثرهم وهو كما ترى، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانًا قليلًا لأنهم وحدوا وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشريعته، والإيمان بمعنى التصديق لا الإيمان الشرعي، وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم كما في قوله: والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانًا معدومًا إما على حد {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} [الدخان: 56] أي إن كان المعدوم إيمانًا فهم يحدثون شيئًا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال، أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل على ما لابد منه كان معدومًا انعدام الكل بجزئه، والوجه هو الأول. اهـ. .من فوائد ابن عاشور في الآية: قال رحمه الله:قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}.يجوز أن يكون هذا كلامًا مستأنفًا.و{مِنْ} تبعيضية، وهي خبر لمبتدإ محذوف دلّت عليه صفته وهي جملة {يحرّفون} والتقدير: قوم يحرّفون الكلَم.وحَذْفُ المبتدإ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف وذلك إذا كان المبتدأ موصوفًا بجملة أوْ ظرف، وكان بعضَ اسم مجرور بحرف {من}، وذلك الاسم مقدّم على المبتدإ.ومن كلمات العرب المأثورة قولهم: مِنَّا ظعنَ ومنّا أقام أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام.ومنه قول ذي الرمّة:أي ومنهم فريق، بدليل قوله في العطف وآخر.وقولُ تميم بن مُقْبِل: وقد دلّ ضمير الجمع في قوله: {يحرّفون} أنّ هذا صنيع فريق منهم، وقد قيل: إنّ المراد به رفاعة بن زيد بن التَّابوت من اليهود، ولعلّ قائل هذا يعني أنّه من جملة هؤلاء الفريق، إذ لا يجوز أن يكون المراد واحدًا ويؤتى بضمير الجماعة، وليس المقام مقام إخفاء حتّى يكون على حدّ قوله عليه السلام: «ما بال أقوام يشترطون» إلخ.ويجوز أن يكون {من الذين هاوا} صفة للذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، وتكون {مِن} بيانيّة أي هم الذين هادوا، فَتكون جملة {يحرّفون} حالًا من قوله: {الذين هادوا}.وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبّة ضلال المسلمين.والتحريف: الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته، وسيأتي عند قوله تعالى: {يحرقون الكلم عن مواضعه} في سورة المائدة (13)، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل، كما يقال: تنكَّب عن الصراط، وعن الطريق، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل، فهو على هذا تحريفُ مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن بالتأويلات الفاسدة.ويجوز أن يكون التحريف مشقًّا من الحرف وهو الكلمة والكتابة، فيكون مرادًا به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتُوافِق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال.والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم.وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم، ناظرٌ إلى غالب أحوالهم، فعلى الاحتمال الأول يَكون استعمال عن في قوله: {عن مواضعه} مجازًا، ولا مجاوزة ولا مواضِعَ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذٍ نقل وإزالة.وقوله: {ويقولون} عطف على {يحرّفون} ذُكر سوء أفعالهم وسوء أقوالهم، وهي أقوالهم التي يواجهون بها الرسول عليه الصلاة والسلام: يقولون سمِعْنا دعوتَك وعصيناك، وذلك إظهار لتمسّكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم، ولذلك لم يَرَوا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له: {واسمع غير مسمع} إظهار للتأدب معه.ومعنى {اسمع غير مُسمع} أنّهم يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم عند مراجعته في أمر الإسلام: اسمع منّا، ويعقّبون ذلك بقولهم: {غير مسمع} يوهمون أنّهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم: غير مُسمع، أي غير مأمور بأن تسمع، في معنى قول العرب: (افعَلْ غيرَ مَأمُور).وقيل معناه: غير مُسْمَع مَكروهًا، فلعلّ العرب كانوا يقولون: أسْمَعَه بمعنى سَبَّه.والحاصل أنّ هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطّف.إطلاقًا متعارفًا، ولكنّهم لمّا قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمَح به تركيبها الوضعي، أي أن لا يسمع صوتًا من متكلّم.لأن يصير أصمّ، أو أن لا يُستجاب دعاؤه.والذي دلّ على أنّهم أرادوا ذلك قوله بعد: {ولو أنهم قالوا} إلى قوله: {اسمع وانظرنا} فأزال لهم كلمة {غير مسمع}.
|